Monday, October 19, 2015


مركز الفن الشعبي .. لوحة فنية تحكي قصة شعب

حين تتركُ الأغاني البيوت، وتحتكُ بالحجارة وتصعد إلى السماء، تصبح ملكاً للناس، ليضع كل إنسان فيها حلمه، والوجع الذي فيه، والفرح الذي يأخذه إلى أبعد، لتهرع الطفولة في الأزقة تحكي قصصاً نعرف الآن أنها حكايتنا نحن، وإن كانت قد قيلت قبل ألف عام.  وحين نصاب بوجع الذاكرة، نفقد الطريق إلى البيت، نتوه قليلاً ثم نسمع صدى الأغاني والقصص تعيدنا إلى خزانة الملابس، وأدوات بقائنا العديدة، هكذا لا ننسى من نحن، ولا نفقد تاريخنا ولا هو ينسانا، كأنه صاحبنا الذي يمسكُ أصابعنا الصغيرة ويحنيها بطين الهوية، لنصير كلنا أبناء تاريخنا المشترك، هذا على الأقل وفي أقل الحالات ارتباك نسميه ثقافتنا الشعبية، حيث تصير اللعبة قصة، والعرس إرثاً، والرحيل عودة بعيدة.

هكذا تكونت ثقافة الشعوب، من الصدفة التي تصنع الجمال في أشد الأشياء غرابة في حينها، لتبقى مع الناس إرثهم ودليل عيشهم في زمن ما، حتى تستمر الأجيال في حمل الأشياء ذاتها كما تريد حملها من جيل إلى آخر، حتى تصل إلينا، ليضع كلُّ جيل فيها صبغته التي يريد، حتى يصير هذا الذي نحمله فناً له ذوق وإحساس وفكرة، إلا أنه ملكُ الجميع، هذا هو الفن الشعبي الذي يضع هوية لكل شعب أمام وهج التوحد بين الشعوب، وقد أدرك مجموعة من الشباب والصبايا في العام 1987 ذلك، وأدركوا جيداً أن الفلسطيني قد يخسر كثيراً، إلا أنه يجب أن لا يخسر نفسه في هويته وثقافته التي هي تاريخه وحاضره، فقاموا بتأسيس مركز الفن الشعبي في البيرة.

مؤمنين بأن المعركة الثقافية إنما هي آخر خطوط الدفاع عن الفلسطيني أمام جنون الاحتلال الذي سعى -ولا يزال- إلى سرقة هوية الفلسطيني، وابتكار هوية ثقافية له مبنية على ثقافة شعب يحتله، وهذا كان الهدف من تأسيس مركز الفن الشعبي، الذي يعد اليوم أحد أعمدة الهوية الثقافية في فلسطين، صانعاً رؤيته في التغيير من خلال الفنون والثقافة، واعتبارها وسيلة نضالية تصنع مجتمعاً حراً ومتنوعاً، معتبراً التفاعل مع الثقافات الأخرى في العالم تعزيزاً للثقافة الوطنية الفلسطينية من جانب، وحماية الهوية الأصيلة لهذا الشعب من جانب آخر، من خلال العديد من الأنشطة والفعاليات الثقافية التي خرجت من نطاق المحلية نحو العالمية.

فقد ذاع صيت مركز الفن الشعبي من خلال مهرجان فلسطين الدولي للرقص والموسيقى منذ انطلاقته الأولى في العام 1993، ليكون أول مهرجان دولي في فلسطين، هادفاً إلى كسر العزلة الثقافية التي يصنعها الاحتلال، سواء باستضافة فرق عالمية أو تجارب عربية، وفرصة ذهبية للفرق المحلية، حيث الانتشار في فعاليات المهرجان التي كسرت نمطية الخارطة السياسية المفروضة، من خلال مواقع المهرجان في كل فلسطين، ممتدة من الناصرة وحيفا، والقدس، ورام الله، والخليل، وجنين، وبيت لحم، ونابلس ... وغيرها، جامعاً الجماهير المتنوعة ثقافياً نحو رؤية واحدة، وقيمة فنية عالية، إلى جانب قدر هائل من العمل التطوعي الذي كان عماد المهرجان منذ تأسيسه.

ويصنع المهرجان من خلال المتطوعين حالة نشطة في فلسطين خلال فترة إقامته، من خلال الانتقال بين المدن والقرى، ودخول الفرق والفنانين، إضافة إلى بناء مسرح خارجي كان هو الأول من نوعه في فلسطين، منتجاً العديد من المهرجانات الصغيرة على مستوى المدن، التي مهّدت لحالة ثقافية في فلسطين لاحقاً، من خلال بناء الشراكات مع المؤسسات في مختلف المناطق على الصعيد المحلي أو العالمي.

ولم يقف مهرجان فلسطين وحيداً على الرغم من زخامة العمل فيه ضمن أنشطة المركز، بل كان مهرجان التراث هو، أيضاً، حالة فنية منفصلة، من خلال استضافة العديد من فرق التراث الشعبي في الرقص والموسيقى والشعر من فلسطين والعالم أيضاً، إلى جانب تنظيم مسابقة الدبكة الشعبية بين الفرق المحلية، ضمن أجواء تراثية في المضمون والشكل، حيث لم يقتصر العمل فيه على خشبة المسرح، بل إلى المدارس والأحياء والساحات، معززاً أهمية التواصل الثقافي بين الجماهير، كونه المهرجان الأول من نوعه في فلسطين منذ العام 1989.

وقد عمل مركز الفن على تعزيز دور الشباب، من خلال التواصل مع مؤسسات المجتمع المدني القاعدية في الريف والمخيم والمدينة وبينها، من خلال برنامج مشروع الشراكة الذي يضم 14 مركزاً شبابياً في الضفة وغزة، بالشراكة مع مركز بيسان للبحوث والإنماء، ومركز العمل التنموي – معاً، ضمن العديد من المحاور التي يتم تحديد موضوعها من قبل المؤسسات المشاركة، متخذاً من الفن محوراً أساسياً، ووسيلة من وسائل التغيير التي يعتمد عليها المشروع، إلى جانب المحاور الأخرى كالضغط والمناصرة والحملات الشبابية، إضافة إلى تطوير وإسناد القدرات لدى هذه المؤسسات، وبذلك يكون مركز الفن عاملاً محورياً في بناء العلاقات بين المؤسسات القاعدية ومؤسسات المجتمع المدني، القادرة معاً على التغيير في المجتمع نحو قيم وطنية بشكل أساسي.

ولا يمكن الحديث عن مركز الفن الشعبي من دون أن تسمع ضجيج الأطفال صعوداً ونزولاً على درجات المبنى، من وإلى حصص التدريب في مدرسة الرقص التي تضم أكثر من 400 طفل من عمر 6 إلى 17 سنة من رام الله والمحيط، موزعين على مجموعات يقوم بتدريبهم مجموعة من الراقصين والمدربين ذوي الخبرة في العديد من أنواع الرقص، أساسها الدبكة، إضافة إلى العديد من الورش الفنية التي يتعرض لها هؤلاء الأطفال، إلى جانب مشاركة البعض منهم في طقوس افتتاح مهرجان فلسطين الدولي، محتفلين سنوياً بتخريجهم من هذه المدرسة، مع العلم أن هذه المدرسة تشكل رافداً أساسياً لفرق الرقص في فلسطين، بعد بناء اللبنة الأساسية في هؤلاء الأطفال.

وباتساع رؤية المركز نحو العمل الجماهيري الفني، يعمل المركز على تأسيس فرق دبكة في المناطق الأقل حظاً، ومساندة فرق أخرى من خلال التدريب وتطوير المهارات والدعم المالي للإنتاج، إضافة إلى ترتيب عروض محلية في المناطق، والمشاركة في المهرجانات والمسابقات، لتمتد هذه الفرق من جنين حتى القدس، ويصبح جزء من هذه الفرق لاحقاً حالة فنية في المنطقة التي تنتمي لها، وقد عمل المركز طويلاً لتكون الدبكة حالة مجتمعية واسعة النطاق، أثبتت جدارتها، وأثبتت نجاح فكرة الاستثمار الثقافي في المناطق بعد نضوج العديد من هذه التجارب، التي أصبحت اليوم شريكة في عمل المركز، وساهمت في توسيع رقعه العمل فيه.

وعلى الرغم من كل ما يقوم به المركز من أنشطة تحتاج إلى سياسات دول لتقوم بها، فإن البصمة الأهم في حياة المركز كانت في جعل المركز حالة معرفية مهمة على صعيد الموسيقى الشعبية، من خلال أرشيف الموسيقى والأغاني التقليدية في فلسطين، الذي بدأ العام 1994، منشأً أول مكتبة سمعية للموسيقى الشعبية في فلسطين، محفوظة على أكثر من 200 ساعة تسجيل لكافة المناسبات الاجتماعية والدينية الشعبية، والعديد من الآلات الموسيقية الشعبية أيضاً، لتكون مرجعاً أساسياً للفلكلور الفلسطيني، ليستفيد منها العديد من الفرق والموسيقيين والمؤسسات البحثية، حيث تم إعداد هذا الأرشيف بأصوات الناس التي تملك مخزوناً هائلاً من التراث الشعبي، وقد قام المركز بإصدار أسطوانتين سابقاً من هذا الأرشيف، وذلك بهدف تسهيل الوصول له، كونه يعتبر كنزاً معرفياً وإرثاً حضارياً مهماً.

إن مركز الفن الشعبي يعتبر لوحة فنية كاملة بطاقمه المكون من 9 موظفين، مستكملاً اللوحة الفنية المرسومة على جدار المركز، التي توثق بصرياً بأسلوب فني، حكاية شعب مهدد طوال الوقت باندثار إرثه الحضاري الإنساني، مثبتاً حقيقة لا مجال للشك فيها؛ أن حكاية الشعب الفلسطيني ستظل حية رغم كل شيء، منطلقاً من إيمان متجذر بضرورة توثيق هذه الحضارة في جانبها الفني من جهة، وتعزيز حركتها التاريخية من جهة أخرى، ممسكاً بالماضي كما هو، ومنطلقاً به نحو المستقبل الذي نريد، من خلال العديد من الأنشطة والشراكات؛ أهمها كون المركز عضواً مؤسساً في شبكة الفنون الأدائية الفلسطينية.

شبكة الفنون الأدائية الفلسطينية

No comments:

Post a Comment

Note: Only a member of this blog may post a comment.