Tuesday, October 27, 2015

فرقة الفنون الشعبية الفلسطينية
عالم الفلسطيني


كيفما وجد هذا العالم في المرة الأولى وترك على حاله، تحملهُ أصابع الغيب من جانب، وتؤلف قصصه حياة الناس من جانب آخر، فإنه يحمل أيضاً قصته التي لا يحملها أحد، ولا يؤلف قصتها أحد، فهو أيضاً مثلنا نحن يبحث عن حيزه في الكون، يبحث في وقت فراغه عن الأمل المتبقي، ويحاول في وقت نهاره أن ينجو بما تبقى معه من أمل، ليحول في كل تجارب الموت صيغة أخرى للحياة، ويصنع في كل وعكة نفسية سبيلاً آخر للنجاة، ولسوء حظنا نحن أننا لم نسمع يوماً حكاية هذا العالم كما يجب، وأننا أيضاً لم نكن مستمعين جيدين حين فعل ذلك، فنحن أيضاً مشغولون بقصصنا نحوه، كأننا في كل ما نحاول فعله وعيشه من قصص، إنما نحاول أن نعرف قصة هذا العالم.

قصة العالم الذي بدأ منذ نمت أناملنا ولامست أوراق الكتب، وجدل شعره المجعد حتى نهوي على إحدى الخصل ونحن نضحك، هذا العالم أدرك أنه الحقيقة حين اكتشف أن للأخرين حقائق أيضاً، وأن وهم الشك إنما هو سؤال الحقيقة الدائم، وهنا رأينا أنفسنا فيه، كأنه كان منذ النبضة الأولى فينا ومعنا، وقد تكوّن في الخلايا، وصار عضواً آخر في الجسد، تماماً بجانب القلب، لا هو قلب ولا هو رئتان، إنما هو شيء آخر نسميه الهوية، التي وإن حاولنا راغبين الابتعاد عنه، فإنه يظل فينا، وكلما حاولنا قتله فإنه يزداد حياة، وإن حاولنا مرة وضعه في خانة واحدة، فإنه يكبر فيها لتصير جزءاً منه.

الهوية هي نحن، ونحن الهوية، وهذا ليس افتراء فلسفياً تقودهُ الأسئلة، إنما هو تجربة المصادفة في ثلاثة شبان في العام 1979، حين وضعوا الحجر الأساس لأهم مؤسسة فنية في الرقص والموسيقى الشعبية، لتكون هذه المؤسسة في بدايتها فكرة مجنونة، تصعد على المسرح لتؤدي الدبكة، ولتكون فرقة الفنون الشعبية الفلسطينية.

تأسست الفرقة في مدينة البيرة، آخذةً التراث كما هو من الشارع، لتضعه على المسرح، بكل تفاصيله والعام فيه، في محاولة أثبتت جدارتها أن الهوية الفلسطينية بكل مكوناتها الثقافية، لا يمكن أن يعبر عنها سوى أصحابها الأصليين، في استنزاف مستمر نحو الدفاع عنها وحمايتها أمام صراع الآخر الضائع بلا هوية، وهوس الآخر لاستملاك الأشياء، وجنون الآخر في استعباد الناس، وقد اندفعت الفرقة بإرثها الطبيعي نحو عصرنة حالها، ليكون التراث هو كائن حي ينمو ويتطور معها وفيها، مقتنعة أن الفن والإبداع لا يمكن أن يكون ميزة في وقت الفراغ، بل هو حاجة إنسانية يظهر بها نمو المجتمعات وتطورها، قابضة على رؤيتها الواسعة في تغير الإنسان والمجتمع، من خلال ممارسة فنية جمالية؛ التغير الذي يجعل الإنسان حراً من كل قيود الفكر والمعرفة من جانب، ومؤمناً بالإنسان الفرد من جانب آخر، لتصبح الدبكة هي ذاتها أسلوب حياة ونضال أكثر من كونها رقصة تؤدى في المناسبات.

وقد أنتجت الفرقة منذ تأسيسها خمسة عشر عملاً فنياً متكاملاً في التصميم الحركي والبناء الموسيقي والإخراج، إلى جانب العديد من اللوحات الفنية، التي تتحدث عن الإنسان الفلسطيني ببعد هويته العربية والإنسانية العالمية، صاعده بالمستوى الفني من التراثي الأصيل إلى التراثي المعصرن، ليكون هذا التراث هو تعبير لحظي عن المبدعين في هذا العصر، صانعة من خلال التجربة والحركة الداخلية نموذجاً من الإبداع والظهور والتميز، لتصيغ هذه الأعمال رواية الفلسطيني مع أرضه، منذ أن مرّ عليه احتلاله الأول والثاني والثالث.

ولم يقتصر هذا النمو على الجانب الفني فحسب، بل في الجانب الإداري والمؤسساتي أيضاً، حيث تطور عمل الفرقة بشكل طبيعي من إجراءات إدارية متواضعة إلى هيكل إداري كامل، يقوم عليه مجموعة من الموظفين لتقود أكثر من 123 راقصاً وراقصة متطوعين في الانتماء، محترفين في الأداء، لتجعل من الانفتاح في الرؤية الفنية مدخلاً نحو التجديد المستمر، حيث لم تضع الفرقة منذ يومها الأول نموذجاً واحداً تسير فيه، بل تصنع نماذجها ضمن التجربة بشكل مستمر، وقد برز هذا في الأداء الفني، حيث يتعرض الراقصون، وبشكل مستمر، للعديد من الورش الفنية من كافة أنواع الرقص والأداء الفني في العالم، إلى جانب إطار معرفي دائم النمو، يحركه البحث في الهوية المتجددة.

فقد قدمت الفرقة العديد من الإنتاجات المشتركة مع العديد من مؤسسات ومصممي الرقص العالميين، إلى جانب العديد من الورش والإقامات الفنية للأعضاء في فلسطين والعالم، مندفعة بإيمان أن تطور الفرد يؤدي إلى تطور الجماعة، وقوة الجماعة إنما هي أفراد أقوياء، ويستطيع أي متابع لعروض الفنون أن يرى هذا الإيمان متجسداً على خشبة المسرح، بالانسجام العالي والتآلف بين الراقصين.

كما لعبت الفرقة، ومنذ تشكل نواتها الإدارية، دوراً في تأسيس العديد من الفرق الفنية الصغيرة، وتطوير أخرى، في العديد من المناطق في فلسطين، إلى جانب بعض الفرق الفلسطينية في مخيمات اللاجئين في لبنان، وقد شكل هذا الالتزام نحو تطور الفنون الأدائية، بشكل عام، أو التعامل مع الفلكلور بشكل خاص، حالة هائلة في فرق الدبكة في فلسطين، لتستلهم هذه الفرق عملها وأداءها من فرقة الفنون، سواء في الموسيقى أو التصميم الحركي، وأصبح لاحقاً بما يمكن أن يسمى أسلوب الفنون في التعامل مع الفلكلور، أو مدرسة الفنون، ولم يقتصر الأمر على الفرق، بل على المجتمع ككل، حيث أصبحت أغاني الفنون جزءاً من طقوس المناسبات الاجتماعية والوطنية، وأصبحت تذاع على المحطات الإذاعية المحلية، وتسمُع في البيوت قادمة من إيمان الناس بهذه الأغاني، وقربهم منها من جانب، ومستواها الفني العالي من جانب آخر.

وقد صنعت الفنون تجربة فريدة في التعامل مع الإرث الموسيقي، من خلال إعادة توزيعه بشكل عصري ذي قيمة موسيقية فنية أكثر من كونه موسيقى فلكلورية، وقد تطور هذا من خلال مجموعة من الموسيقيين الفلسطينيين والعرب، الذين أدركوا أن تطوير الفلكلور الموسيقي يكون من خلال وعي مسبق به، ومعرفة موسيقية هائلة بما حوله، وتطور الأمر لصنع موسيقى جديدة مبنية على كلمات جديدة، كلها تحاكي الذوق الفلكلوري، لدرجة أن هذه الأغاني أصبحت اليوم جزءاً من المكتبة السمعية التراثية، على الرغم من كونها حديثة نسبياً.

وقد طورت الفنون عبر سنواتها الـ 36، العديد من الشراكات الفنية في فلسطين وحول العالم، كونها عضواً في الشبكة الإقليمية للفنون الأدائية، أو شبكة الفنون الأدائية الفلسطينية، وعلى الرغم من تضييق الاحتلال عليها في العديد من المرات، سواء عبر اعتقال الأعضاء، أو إلغاء العروض، فإن الفرقة وصلت إلى العالمية عبر آلاف العروض وعشرات الجولات في العالم، لتكون صوت الفلسطيني المتفق عليه أينما ذهبت.

ولا يمكن المرور حول تجربة الفنون الفنية من دون التعريج حول تجربة تربية الإنسان داخل الفنون، حيث تعرف الفنون بكونها مجتمعاً فنياً أكثر من كونها فرقة، وعلى الرغم من مرور آلاف الأعضاء من الجنسين في حياة الفرقة، فإنه اليوم لا يزال هناك أكثر من 123 عضواً نشطاً في الفرقة، وقد قدموا عرضاً مؤخراً بذكرى التأسيس، وتتوج العرض بصعود 106 راقصين وراقصات على خشبة المسرح بكافة أجيال الفرقة، منذ جيل التأسيس حتى جيل البراعم الذي قدم مؤخراً عمله الفني الجديد "طلت".

هذه الفنون، أو كما يسميها الأعضاء فيها "عالم الفنون"، هي التجربة المتنمرة في إبداعها، والناضجة فيما تقدمه، هي العالم الذي يحلم جميع أعضاء الفنون بجعله العالم الذي نعيش فيه، وعلى الرغم من أن هذا العالم لا يزال غير قادر على فهم تجربة الفنون، حيث لا يعرف حتى الآن السر الذي أبقى الفنون كما هي الآن، فإنه يعرف جيداً أنها تجربته الفريدة نحو حكاية الفلسطيني الذي يصرخ بأعلى صوت وبأجمل صوت.


شبكة الفنون الأدائية الفلسطينية

No comments:

Post a Comment

Note: Only a member of this blog may post a comment.